عرّافو الضياء

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
06/04/2008 06:00 AM
GMT



كان كتاب الجاحظ عن أشعار العميان والبرصان والعرجان مثار تندرنا أيام دراستنا الجامعية مستكثرين أن يجهد كاتب مثله في عمل أنثولوجي كبير لشعراء كنا ندعوهم بحسب المصطلح العسكري العراقي غير المسلحين! وهم من تنجيهم عاهاتهم من الخدمة العسكرية الإلزامية في حروب العراق المستديمة، وكان الشطري وهو الكتبي الأشهر في شارع المتنبي ببغداد، والمنادي عليها يكرر التسمية الطريفة مختصراً العنوان حين ينادي لبيع نسخة منه في مزاد الجمعة.

كان تصورنا قاصراً بالطبع، وممتثلاً لثقافة ريفية ترى الكمال الجسمي شرطاً للإبداع، وراحت الأمثولات التالية والمراجع الثقافية تحررنا من تلك النظرة، ربما كان المعري أبرز المؤثرين بلزومياته وطه حسين بأيامه وملتون بالفردوس المفقود وقبلهم هوميروس.. كانوا مبصرين أبدعوا مستعيضين عن البصر بما هو أعمق في الرؤية.

في أسبانيا يقدمون جائزة التيفلوس سنوياً لشعراء مكفوفين يكتبون بالأسبانية يتسابقون بقصائدهم لكي يفوزوا فتنشر أشعارهم في كتيبات، قامت مترجمة عربية هي الهام عيسى بنشر مختارات منها (القاهرة 1996) تحت عنوان دال: ''عرّاف الضوء''، إنهم شعراء يجوسون في عتمات العمى ومتاهاته لكنهم يستنفرون طاقة الروح لخلق رؤاهم المبصرة، وكنت قد درست العمى في كتابي ''البئر والعسل'' لا لكي أتعاطف إنسانياً مع الخطاب المنتج تحت ألم فقدان البصر بل لأوضح الطاقة الاتصالية المضافة في هذا الخطاب.

تصف شاعرة كفيفة هي خوسفينا بيردي ظلمة العمى بأنها ''ظلمة رنانة'' وتتوجع مما تلاقيه:

إن دانتي لم يتخيل في جحيمه

عذابا أشد مما تكابده جمرة مشاعري

في جوف هذه الصورة الشاحبة

حيث يشعل العقل جمرات جنونه

توجد عينان معوزتان مطفأتان

لكن ذلك الألم الممضّ لا ينسيها قدرتها الداخلية على أن ترى ما لا يراه المبصرون وتنصت لأصوات الصمت ورنين ما فقدته بسبب العمى:

في هذه العتمة حيث أعيش الآن

فقدت الحدود الفاصلة صلابتها

الآن انحصرت عاهتي

في محاولة الإنصات لما قد فقدته

فلا أدري هل كان زجاجاً أم مرآة

وهل ما أراه هو الذي ينقصني

أم هو الذي أملكه

تتسم رؤية الأعمى بالبعد الإنساني فهو يحس بخفقة الروح في الأشياء: شاعرة كفيفة تكتب عن كلبها الذي يناجيها بحركات تقطع عليها الصمت في لجج العتمة وشاعر آخر يدعو حبيبته لتسير معه سوياً عبر الكون لأنه يحس بها فيخاطبها بحواسه ويقول لها: إنك تعطرين الهواء وكأنك أنشودة، وكل شيء كان حانياً حين مررت، ومشيتك كأنها سمفونية رائعة تعزف للسكون، لقد أعطى لأحاسيسه مظهراً ملموساً يقرّب المجردات بما أوتي من بصيرة تفوق امتياز كثير من ذوي البصر الذين يكتفون بأن يروا ولا يبصرون...